يقول البارودي:
أين أيام لذتي وشبابي **أتراها تعود بعد الذهاب؟
ذاك عهد مضى وأبعد شيء ** أن يرد الزمان عهد التصابي
فأديرا علي ذكراه، إني **منذ فارقته شديد المصاب
كل شيء يسلوه ذو اللب إلا **ماضي اللهو في زمان الشباب
ليت شعري متى أرى روضة المنيل ** ذات النخيل والأعناب
حيث تجري السفين مستبقاتٍ ** فوق نهر مثل اللجين المذابِ
قد أحاطت بشاطئيه قصور ***مشرقات يلحن مثل القباب
ملعب تسرح النواظر منه **بين أفنان جنة وشعاب
كلما شافه النسيم تراه ** عاد منه بنفحة كالملاب
ذاك مرعى أنسي، وملعب لهوي ** وجنى صبوتي ومغنى صحابي
لست أنساه ما حييت وحاشا **أن تراني لعهده غير صابي
ليس يرعى حق الوداد ولا ** يذكر عهدا إلا كريم النصاب
فلئن زال فاشتياقي إليه **مثل قولي باق على الأحقاب
يا نديمي من سرنديب كفا ** عن ملامي، وخلياني لما بي
كيف لا أندب الشباب **وقد أصبحت كهلا في محنةٍ واغتراب
أخلق الشيب جدتي وكساني ** خلعة منه رثة الجلبابِ
ولوى شعر حاجبيّ على عيني ** حتى أطل كالهداب
لا أرى الشيء حين يسنح إلا ** كخيال كأنني في ضباب
وإذا ما دعيت صرت كأني ** أسمع الصوت من وراء حجاب
كلما رمتُ نهضة أقعدتني ** ونية لا تقلها أعصابي
لم تدع صولة الحوادث مني **غير أشلاء همة في ثياب
فجعتني بوالدي وأهلي ** ثم أنحت تكر في أترابي
كل يوم يزول عني حبيب ** يالقلبي من فرقة الأحباب
أين مني "حسين" بل أين **عبدالله رب الكمال والآداب
مضيا غير ذكرة وبقاء الذكر ** فخر يدوم للأعقاب
لم أجد منهما بديلا لنفسي ** غير حزني عليهما واكتئابي
قد لعمري عرفت دهري **فأنكرت أمورا ما كن لي في حساب
وتجنبت صحبة الناس حتى ** كان عونا على التقاة اجتنابى
لا أبالي بما يقال وإن كنت **مليئا برد كل جواب
قد كفاني بعدي عن الناس أني ** في أمان من غيبة المغتاب
فليقل حاسدي علي كما شاء ** فسمعي عن الخنا في احتجاب
ليس يخفى علي شيء، ولكن ** أتغابى والحزم إلف التغابي
وكفى بالمشيب وهو أخو الحزم ** دليلا إلى طريق الصواب
إنما المرء صورة سوف تبلى ** وانتهاء العمران بدء، الخراب